رواد المنتدي هذه مقالات للاديب العالمي الطيب صالح بصحيفة أخر لحظة الواسعة الانتشار بالسودان آمل أن تعم بها الفائدة وهذه واحدة من تلك المقالات بعنوان
عقلاء يهود
قال مستر (جوناثان برودَر) في كلمة صريحة متزنة، أن السياسة الأمريكية سياسة معقدة وقد تبدو متناقضة أحياناً، وأن على العرب أن يفهموا هذا التعقيد و(يتعلموا أصول اللعب). وأضاف في صراحة لافتة: (السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط لها هدفان: ضمان تدفق البترول، وضمان أمن إسرائيل، ولا يوجد أي إحتمال في تغييرها). إنه رئيس التحرير في الإذاعة القومية في واشنطن، وهو يهودي، شأنه في ذلك شأن (جودث كبر) المديرة بالمشاركة لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، و(توماس لبمان) المراسل الدبلوماسي لصحيفة الـ (واشنطن بوست) والسفير المتقاعد (والتر كتلر) رئيس مركز المريديان الدولي في واشنطن، و (هنري سقمان) الزميل في معهد الشؤون الدولية في نيويورك ، والسفير المتقاعد.
( روسكو سودارت) رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن.
إننا بطبيعة الحال، لم نجد أية غضاضة أو غرابة، كونهم يهوداً، فقد تعلمنا من شريعتنا السمحاء وحضارتنا المضيئة، أن نحترم عقائد الآخرين ونتفهم إختلاف مذاهبهم في العيش- ( لهم ما لنا وعليهم ما علينا). وإن كانت قلة من المسلمين بسبب ضيق الأفق وسوء الفهم للدين يسلكون بخلاف ذلك، فإنه شذوذ عن القاعدة.
الأمر الثابت طوال التاريخ هو أن اليهود لم يجدوا أبداً مثل ما وجدوا في المجتمعات العربية والإسلامية، من طمأنينة وقبول وإتاحة فرص لمواهبهم كي تزدهر وتشارك في تطور حياة المجتمعات التي عاشوا فيها. كان منهم الوزراء والسفراء والفلاسفة والشعراء والأطباء والأدباء.
تلك التجربة الفريدة في التعايش الإنساني، كان حرياً أن يُحتفي بها ويُضرب بها المثل. ولكن الحركة الصهيونية- كما نعلم- في محاولاتها اليائسة لايجاد مبررات للاستيلاء على أرض فلسطين، تنكرت لتلك التجربة، بل صورتها على عكس ما كانت عليه، تماماً.
ولا يخفى أن الحركة الصهيونية حين أحست أن حجة (أرض المعاد) لا تكفي لتبرير استيلائهم على فلسطين، أخذت تلجأ إلى ذرائع أخرى.
قالوا إن الأرض كانت ( خالية ). إنما تلك حجة كان من السهل دحضها، فقد كان واضحاً لكل ذي عينين أن الأرض كانت تموج بالبشر الذين عاش اسلافهم فيها منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام.. وكانت جلبة النضال الفلسطيني لصد الاستعمار الصهيوني, لا تترك مجالاً للشك أن الأرض لم تكن خالية. وحتى لورد كيرزن، لم يملك إلا أن يقول في مجلس وزراء لويد جورج عام 1917، قبيل صدور وعد بلفور لإقامة (وطن قومي) لليهود في فلسطين:
( أنتم تقصدون في الحقيقة إنشاء (دولة) لليهود في فلسطين.. والأرض ليست خالية).
لجأوا عندئذ إلى حجة هي من أغرب الحُجج في التاريخ. قالوا.. إن عرب فلسطين ( لا يستحقون الأرض)، لأنهم في زعمهم شعب خامل همجي بهيمي الطباع غدار منكر للجميل متعصب كاره للحضارة الأوروبية، وأن اليهود أحق منهم بأرض فلسطين، بسبب فضائلهم التي هي نقائض لكل تلك الرذائل العربية.
ثم انطلقوا فعمموا ذلك البهتان على العرب قاطبة على أنه عنصر بشري منحط، وعلى الحضارة العربية الإسلامية بحسبانها شيئاً مَشْخاً لا يرقى إلى مرتبة الحضارة. ترسيخ هذه المزاعم، هو الهدف وراء كل ما يسمعه العرب والمسلمون، ويقرأونه ويشاهدونه من تزييف في وسائل الاتصال الأوروبية والأمريكية. ولا بد من الإعتراف أن الحماقات التي يجترحها بعض العرب- أفراداً ودولاً- تستغل استغلالاً ماهراً، لإضافة بشاعة على بشاعة.
في المقابل، فإن فكرة أن اليهود أحق بالأرض، هي وراء كل المزاعم الصهيونية، أنهم حولوا الصحراء إلى جنة، وأنهم أقاموا دولة ديمقراطية متحضرة في محيط من الرعاع والهمج والتخلف والاستبداد.
وقد نجحوا في دعايتهم نجاحاً منقطع النظير، بحيث استطاعوا أو كادوا، أن يحولوا شعوباً بأكملها وحضارة برمتها، إلى شئ تافه لا يؤبه له ولا يحسب حسابه.
هذا النجاح بعينه، أخذ فيما يبدو يزعج عقلاء اليهود- وكل اليهود الموجودين معنا في أصيلة من العقلاء- لأنهم بدأوا يدركون أن ذلك التصور للعرب والمسلمين، إن لم يتغير ويُوضع حد لانتشاره، فسوف يحول دون قيام سلام حقيقي. وهؤلاء العقلاء يفهمون أن اليهود الإسرائيليين في نهاية الأمر، محكوم عليهم بالعيش وسط أولئك الأقوام، وهم يزدادون عدَّاً وعتاداً يوماً بعد يوم.
ربما ذلك القلق من عقلاء اليهود الأمريكيين على مصير بني قومهم في فلسطين، هو الذي يفسر إلحاح أغلبهم في ندوة أصيلة- صراحة وتضميناً- أن يفعل العرب شيئاً يوقف ذلك الطوفان. ولم يكن مستر (جوناثان برودر) شاذاً عنهم. شرح بإسهاب كيف تعمل الدعاية الإسرائيلية في أمريكا. وطلب من العرب أن يفعلوا مثلهم، وقال:
( العرب انسحبوا من الميدان وتركوه مفتوحاً للطرف الآخر).